القلب اخضر والناس ماتعذر

القلب اخضر والناس ماتعذر
القلب اخضر والناس ماتعذر

في ندوة الوفاء الثقافية :

الكاتب الساخر الأستاذ يحيى بن محمد باجنيد يحاضر عن :(القلب أخضر والناس ما تعذر)

الرياض : محمد شلال الحناحنة

أقامت ندوة ( الوفاء ) الثقافية ضمن نشاطاتها الأسبوعية لهذا الفصل في الرياض محاضرة بعنوان ( القلب أخضر والناس ما تعذر ) , ألقاها الكاتب الساخر يحيى محمد باجنيد , وذلك مساء الأربعاء 26-6-1439 هـ , وفي منزل عميد الندوة الشيخ أحمد محمد باجنيد رحمه الله , وقد أدار اللقاء الأستاذ الإعلامي الدكتور محمد أبوبكر حميد , وحضرها كوكبة من الكتاب والأدباء والمثقفين وجمهور الندوة .

حلقة الفنون في أسرة باجنيد العريقة

بدأ الحديث مدير هذا اللقاء من ندوة : ( الوفاء ) الإعلامي المعروف الدكتور محمد أبو بكر حميد قائلا :

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على من قال : إن من البيان لسحراَ , ونحن هذه الليلة بين يدي كاتب ساحر , كاتب عملاق من الذين تجتمع فيهم عدة فنون, يحيى

محمد باجنيد ينتمي لأسرة عريقة بالعلوم والآداب , وكتب التاريخ تقول أن آل باجنيد اشتهر منهم العالم والفقيه ، واشتغلوا بمعظم المهن فكان منهم النجار والعامل والتاجر و الشاعر , ونحن عرفنا منهم عميد هذه الأسرة في العصر الحديث رحمة الله عليه شيخ الحضارم الشيخ أحمد بن محمد باجنيد ، وتمتد هذه السلسلة من هذه الأسرة العريقة لتقف عند الأستاذ يحيى بن محمد باجنيد , الذي أرى أن حلقة الفنون في آل باجنيد تكتمل به , لأنه جمع بين عدة فنون في آنٍ واحد , جمع بين كتابة الكلمة ، والرسم بالريشة والرسم بالكلمة ، والسخرية الساحرة , ولا عجب أني لا أقدّم لكم يحيى باجنيد بل تقدّمه أعماله, وإذا كنّا سنؤرّخ في يوم من الأيام لمؤرخ لفن السخرية بالكلمة ، وفن السخرية بالريشة وبالرسم ، فلا شك أنه سيكون ليحيى باجنيد , فهو الرائد في هذا الفن ولم يأسرنا بالكلمة المكتوبة وحدها ، ولا المسموعة ، ولا المرسومة كذلك !!! إنّما اجتمعت دائما في كل فن من هذه الفنون التي يكتبها كل هذه الصفات , واستمع وأعجب وتابع الآلاف بل الملايين من المستمعين للإذاعة السعودية لبرامجه الشهيرة فيها ، وخاصة برنامج ( كلام على قدّ الكلام ) , فضلاً عن الكتب التي أصدرها والتي كانت في البداية مقالات , وأذكر أنّي كنت أتابع في صحيفة المدينة مقاله القصير بعنوان : ( حسبنا الله ) , ولا بدّ لي أن أقول أن دارسي الإعلام إذا أرادوا دراسة فن المقالة القصيرة المعبرة عن الفكرة في أقل عدد ممكن من الكلمات، فإن يحيى باجنيد هو كاتب أقصر مقالة في تاريخ الصحافة السعودية , ولعله يأتي اليوم الذي ينصف هذا الرجل الذي لم أره يأخذ حقه كاملاً ، ولم أره يأخذ حقه من الدراسة , وذلك يعود لسبب أساسي أحياناً هو تواضعه الذي يلاحقه في كل موقف ممّا يؤدي إلى ظلمه , ويحيى باجنيد شارك في ظلم نفسه ، وأرجوه في هذا المقام أن يرفع عن نفسه الظلم ، وأن يرفع يده بقلمه , أختم كلمتي بالقول : إنّ هذا الرجل كلما قرأت له أو رأيته رأيت فيه شخصية حارات قديمة , رأيت فيه حواري البغدادية , رأيت فيه القهوة وشرب الشاي في السطوح ومركاز العمدة , وأنني أتجول في مدينة اجتمعت كلها في رجل ، وهذا الرجل هو يحيى بن محمد باجنيد !

الشيخ أحمد باجنيد رحمه الله الذي أحبّكم وأحببتموه جميعا !

وتحدّث المحاضرالأستاذ الكاتب السعودي الساخر يحيى باجنيد فقال :

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله , الحمدلله الذي جمعنا في هذا المحفل بين أساتذتنا وأتمنى في هذه المناسبة أن أستفيد من علمكم وثقافتكم وتجاربكم , والواقع بسبب أن الشيء بالشيء يُذكر ، فأريد أن أتحدث عن إنسان أحببتموه جميعاً و أحبكم ، ربما بقدر ما أحببتموه وأكثر سيدي صاحب هذا المكان الذي أتضاءل أنا الآن بالجلوس فيه , فهو يضرب لنا المثل ويشقينا كمثال أن نسير على نهجه أو نصبر صبره أو تكون لنا قوته وشجاعته بالحق , فرحمة الله عليه ، فلديه الكثير من صفات الجلد وقوة الإرادة والعزيمة والصبر , فنحن جميعاً نتشرّف بالانتماء له . وأتوجه بالشكر الجزيل لصديقي الدكتور محمد أبو بكر حميد ، وقد أكرمني بما ذكر وأسأل الله أن أكون مثلما قال . لن أحاول أن أستعرض وأتنمّق وأتشدق لأستغل هذا المحور لادّعاء الحكمة واستعراض عضلاتي فعضلاتي الله يعلم بحالها , فالحكمة ليست حكراً على الحكماء والفلاسفة والشعراء , فكثيراً أتت على لسان إنسان بسيط لا يعرف الألف من الباء أو الياء , فمن قال أن حروف الهجاء وحدها هي لغة التخاطب ؟! إن أطعم ما في الحياة أن تتذوق لغة الآخرين , هذا اسمه يحيى إنسان في الصغر والكبر أبسط من بسيط , تفضل الله عليه فأكرمه بوالدين و جدّين فتحا عينيه عليهما , أسرة عطوفة تشرفت بالانتماء إليها .

والديّ وشخصياتهم المشرقة

شجاعة الوالد ورّثها إخوتي عمر وأحمد رحمهم الله وحسين وعلي حفظهم الله , أما أنا ومحمد فلم يتركوا لنا شيئاُ منها إلا مهنة الورّاقة , أما الضحك والميل للطرافة والدعابة فقد وزّعت على الكبار والصغار , فنحن عائلة ضاحكة بفضل الله .

وعن موضوع الأمسية " القلب أخضر والناس ما تعذر " فهذا يقال حينما يصل الإنسان لسنّ معينة ، ويبدأ بمواجهة قول الناس في أنه كبير ولا يليق به قول هذا أو فعله , وأنا لا أقول في المسألة التي فعلاً لا يليق بالإنسان أن يفعلها ، فهذه يتساوى فيها الصغير والكبير , ولكن في المسائل التي فيها يحاول الناس أن يضيّقوا واسعاً . فالقلب الأخضر لم أعنِ فيه فقط العواطف والرومانسية ، إنما قلب صحيّ وفتيّ وفعّال , وفي نفس الوقت يتلقىّ ويستقبل عواطف نبيلة، وكذلك القوة فالقلب الأخضر قويّ ، وقوة الإرادة والفعل .جزء من حياتي كانت لها علاقة بالصوتيات , والحقيقة أنني كنت كثير الالتصاق بكبار السنّ , فكنت أسمعهم حينما يهربوا أولادهم ويتسللوا الواحد تلو الآخر فقد سمعوا حكاياهم مراراً , وقد استفدت من هذه الناحية في الدراما الإذاعية والتراثيات وبرنامج " كلام على قدّ الكلام " الذي ذكره الدكتور , وبالمناسبة أيضاُ والدتي لديها الموهبة في السرد ، وهي تسرد لنا الحكايات مذ كنّا أطفالا إلى الآن ، ولعلها تعيد الحكاية أكثر من مرة ، ولكن في كل مرة برواية جديدة ، فأخذت قدر الإمكان من والديّ لأن شخصياتهم متنوعة ، وفيها كم كبير من الإشراق .

القلب أخضر والنا س ما تعذر

ولقد كتبت مرة في موضوع "القلب أخضر والناس ما تعذر " فقلت : كان قلبه أخضر يركض ويتكتك " رايح جاي " , يسري صوته مع الليل يموّل ويدندن , مرة على بلدي المحبوب وديني , ومرة يا أم العباية الحلوة عباتك , وغيره من أغاني الزمن القديم , ودائماً يختم كل ذلك : ( بأوف أوف يا ولفي ما تخاف الله ), ولم يكن وليفه إلا البحر , كان يغني على سطر ويسعل على سطرين , غاب عن الناس من أيام بحر الأكياس , وأشاعوا أنه مات , شرب من ماء البحر حتى خرج من أنفه وأذنيه , لم يمت لا بالسعال ولا بماء البحر ولا بأنياب السنين , فوجئت به في البنغلة القديمة يفترش بطن بقايا

سبوك , فقلت له : فين ظهر السبّوك ؟ فقال : (مالو ضهر واللي مالو ضهر ينفرش على بطنه ) , لم يعد يغني لأم العباية ولا أم أربعة وأربعين , جفّ فيه كل شيء إلا قلبه ولسانه ,نظر إلي وابتلع سنين العمر الفارقة كأنه يقول : إيش نسوّي , القلب أخضر والناس ما تعذر ؟! كان يؤمن أن الساعة القادمة واليوم والشهر القادم والعمر القادم حياة جديدة , يمرض ، وماذا في ذلك الناس يمرضون , يفشل مرة أو أكثر ولا يهم فكلما تعددت مرات الفشل جاء النجاح عظيماً ومبهراً ، يشع فتضيء الدنيا من الأفق للأفق , إنّ إرادة الحياة قوة متدفقة كالمطر الذي يغمر ويفيض ولا تقف في وجهه العوارض , والماء حياة والركض أيضاً ، وهي صفة ربانية أمر الله بها عبده أيوب الأوّاب بعد أن مسّه الشيطان بنصب وعذاب ،يشرب ويغتسل ويركض , إحساسنا هو الذي يحرك الأرض من تحت أقدامنا , هذا يعني معنوياً , أو يثبتها , ومن أجل ذلك يقال عن من يصيبه الخوف أو القلق ,أظلمت الدنيا في عينيه ، أو مالت الأرض من تحت قدميه , وفرق بين قولهم " انشقت الأرض وابتلعته " أو قولهم " انشقت عنه الأرض فهل يضرب الأرض إلا الواثق " ؟ .

قصدت بالقلب الأخضر هو الإنسان الصحيح , والقلب هو أثمن شيء بالإنسان , فينبغي أن نعتني بقلوبنا وأن لا نحمّلها الكثير.

ما الذي حرّك فينا هذه الأشياء , في الحقيقة هو وجدان أهلنا , فوجدانهم غني , صحيح أنّ فيهم إمام المسجد وخطيب الجمعة فجديّ كان كذلك , لكن لم أذكر أنه أغلق لنا راديو أبداً , هو لا يفتحه ولكن لم يغلقه لنا إطلاقاً , كل ما في الأمر انه يردّد " صلّيتوا ؟ وإذا قلنا"صلّينا"أدار ظهره واتجه لمكتبته.

نافذة الحوار

وأخيرا ، أثارت المحاضرة عددا من المداخلات والأسئلة التي أجاب عنها المحاضر الكاتب الأستاذ يحيى بن محمد باجنيد ، وبدأها الدكتور سعيد باسماعيل قائلا : كل الشكر

للقائمين على هذا المنتدى , الجلسة اليوم أرى فيها عبرا مدروسة , حتى تعلّمت من الحوارات المسموعة على الإذاعة عبرا ودروسا , صحيح أن هناك جزءا ترفيهيّا وفكاهيّا ، لكنّ فيها قصصا لو فصّلناها لوجدنا فيها عبرا للمجتمع الحجازي , وكما قال الأستاذ يحيى باجنيد : إنّ كل الناس قلوبها خضراء وتنهج نهج الرسول عليه السلام بالدعوة لله , فدائماً نرى الشباب مهما فعلوا ينصحون الأطفال بأن يصلّوا ... وهكذا فكلها عبر مدروسة خالية من الشدة . وأجاب المحاضر يحيى باجنيد فقال : أشكرك , وصحيح أن حواراتي فيها بعض الطرافة ولكنها ذات محتوى ومضمون , حيث إننّا نرى بعض الناس يصيبهم الضجر من القراءة والسماع بسرعة لا سيما من الشيء التقليدي ، فندخل الفكاهة من أجل الجذب للموضوع والمحتوى. .. أما مداخلة الأستاذ أحمد مشهور فجاء فيها : الشكر والتقدير والمحبة لأستاذنا ومعلمنا الذي كنا نستمع لبرامجه ونتوق دائماً للكتابات التي يكتبها , ثم القلب أخضر لك أنت أكثر , ونحن قلوبنا خضراء ولكن ليس كاخضرار القلب الذي تحمله بين أضلاعك . وسأل الأستاذ عبدالعزيز باجنيد : ما مدى تأثير حارة الشام و البغدادية في تشكل القلب الأخضر ؟!

وكانت إجابة المحاضر يحيى باجنيد : في الحقيقة أفادتني بأن أعطتني أجواؤها مزيجا من الذائقية , فهناك التراث والبادية والسمسميّة وكل الأجواء الشعبية فهي كلها شكلت ذائقتي . وسأل الأستاذ حمد المهدي : ما السن الذي يدرك فيه الإنسان جمال المرأة ؟ وكانت إجابة المحاضر : أنا أدركت الجمال من خمس سنين , ولذا نشكر الله دائما أن جعل الإحساس قبل الغريزة . واشار الدكتور إبراهيم الغنيم في مداخلته إلى أنّ الموضوع جميل طريف ، واستثار التاريخ الفكري عندنا , فالحيقيقة المادية الموجودة الآن عند الناس ، وسرعة سباق الزمن في مسألة التطور قد جعلت هناك فجوة بين الموجات الطبيعية عند الإنسان التي تميل لأن تكون هادئة في الوضع الطبيعي ، ويكون الإنسان عندها متوازنا مع نفسه ومنسجما مع الحياة وكتذوق للجمال في الطبيعة ، ولكن عملية التسارع والتنازع والسباق غير الطبيعي عند الناس يجعل هذا الفن الداخلي يتبعثر ويتشوه في النهاية , فكأنّ الناس الآن على هذا الجانب الفني في نفوسهم غطاء ويحتاج أن يظهر من جديد , وأنا أشعر أنه يظهر أحياناً بطريقة عشوائية , عندما يكون الإنسان في حالة ملل مثلاً ، وفتح الراديو وصادف مشهدا أو مقطعا أو مسرحية فاضطر لسماعه , لأنه ما زال ضحية هذا الصراع , فيخرج في النهاية بشخصية وسلوك آخر , بينما لو كان في سلوكه السابق من الصعب أن تجد ما يعدل مزاجه ورؤيته وسلوكه , أيضاً في معارض الكتب عندما نجد بعضهم يبتلى بشراء بعض الكتب الفنية يكون أثرها عليه أكثر من أي كتاب آخر , صحيح أن بعضهم لا

يكمل قراءة الرواية أو القصة أو القصيدة لكن سيبقى عنده أثر ولو بسيط , كأنه بذرة ما أنتجت شيئا محددا , نحن متفقون كما يقول بعض الناس أن الفنانين هم مهندسو البشرية ،وهم الذين يصنعون الأثر الحضاري الكبير , ولقد ألقيت محاضرة حول هذا المضوع بعنوان " اللغة تصنع الحياة : واللغة هنا ليست معناها تراكيب اللغة ومعانيها أو نحو ذلك , ولكن اللغة هي وقود الفن والعقل لو نزعتها يصبح الإنسان مجرد جسد فارغ .

وتأتي مداخلة فضيلة الشيخ محمد بافضل مسك الختام : بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد ومن اهتدى بهداه , عنوان الندوة جاء معبرا : القلب أخضر والأستاذ يحيى حفظه الله بحر زاخر ، وعلى أصحاب البحر الكبير والذي يتدفّق تدفقاً كبيراً ، إذا أراد النجاح أن يلزم نفسه بأشياء مكتوبة ومقيّدة , وكما قال الشيخ الغزالي رحمه الله أنه إذا ذهب لخطبة الجمعة يتنبه ويحدّد المخارج التي يأخذه فيها الحديث , وأخيراً وأنا أختم والكلام عن القلب الأخضر هكذا اختاره أن يكون أخضر , القلب هو أساس الإنسان قال عليه السلام :" إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر لقلوبكم وأعمالكم " ثمّ دعا للشيخ أحمد باجنيد وللحضور وللمملكة وللمسلمين جميعا. .