اللغة العربية إلى أين ؟!

اللغة العربية إلى أين ؟!
اللغة العربية إلى أين ؟!

في ندوة " الوفاء " الثقافية : 
(( اللغة العربية إلى أين ؟! ))   للدكتور إبراهيم الحارثي
الرياض : محمد شلاّل الحناحنة
أقامت ندوة " الوفاء " الثقافية بالرياض ضمن لقاءاتها الدورية محاضرة بعنوان : ((اللغة العربية إلى أين ؟!)) ألقاها الدكتور إبراهيم الحارثي ، وذلك مساء الأربعاء 1/11/1433هـ وأدارها الأديب الدكتور محمود عمار  ، وحضرها حشد من المثقفين والإعلاميين ، وثله من جمهور الندوة وروادها .
   
هــل تمــــوت اللغة ؟!

بداية حمد المحاضر الدكتور إبراهيم الحارثي الله تعالى وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم شكر عميد الندوة الشيخ أحمد باجنيد على دعوته لهذا اللقاء ، وأثنى على دور الندوة ثقافيا وإعلاميا منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، ثم أضاف يقولون : (تموت اللغة إذا مات جميع المتحدثين بها) أي كموت اللغة الهيروغلوفية في مصر . لكن علماء اللسانيات لهم تعريف آخر لموت اللغة إذ قالوا : موت اللغة هو إخراجها من الاستعمال في الحياة اليومية ، وإخراجها من النظام التعليمي فأوقفت في تدريس المواد بهذه اللغة ، وأصبحت تدرسها بلغة أخرى . كذلك يعد استخدام اللغة الأجنبية وتقديم البرامج والمراسلات والتفاهمات داخل الشركات والمؤسسات بها بعيداً عن اللغة الأم موتاً لهذه اللغة الأم .  

أيـــن تمضي لغتنــــا العربية ؟!

وأشار المحاضر الدكتور إبراهيم الحارثي إلى أن لغتنا العربية لن تموت لأنها خالدة بخلود القرآن الكريم إلا إذا رفع القرآن كما في الحديث في آخر الزمان ، لكن القضية في استعمال اللغة أو إخراجها من الاستعمال ، وهذا يمثل موت اللغة في المجتمع ، وربما ماتت لغتنا العربية في الأندلس أو في صقلية بينما كان فيها أكثر من ثلاثمائة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ، بينما لا يوجد فيها الآن مدرسة أو مسجد واحد ، وانظر إلى عربستان في جنوب إيران كانت تتحدث اللغة العربية ، وكذلك إنطاكية ولواء الإسكندرونة وجنوب تركيا ، ولكن لا نجد إلا القليل الآن ممن يتحدثون هذه اللغة ، إذن يمكن أن تموت اللغة في بلاد وتحيا في بلاد أخرى ، ويمكن أن يحجب الجيل الجديد عن تعلم اللغة ، فإذا فشل الجيل الحالي في نقل لغته العربية إلى أبنائه ، فسيكون الأبناء أشد فشلاً في نقل هذه اللغة إلى الأحفاد مما يقطع الصلة بين الأجداد والأحفاد ، ومما يفصلهم عن جذورهم الثقافية واللغوية ، ويجعلهم يتجهون إلى لغات وثقافات أخرى بعيداً عن جذوره وأصوله وحضارته وانتمائه ، وهذا ما يحصل الآن عند أبنائنا وأحفادنا في انقطاعهم عن لغتهم العربية إلى اللغات الأجنبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية وغيرها ، وهذا هو الانتحار اللغوي تماماً ، وهو يساوي الانتحار الثقافي ، وهو أشد من انتشار المخدرات لأنه يقضي على الإبداع والإنتاج والجدية والأخلاق والقدرة على التقدم والتطور ، فالشعوب التي تفقد جذورها وأصالتها وثقافتها تغدو كالريشة في مهب الريح تتقاذفه الحضارات ، وهذا يشعر أبناءها بعدم الولاء والانتماء وضياع الهوية .  
     
الاهتمــــام باللغــة الإنجليزية

ثم سأل المحاضر : ترى لم يهتمون كثيراً باللغة الإنجليزية ويهملون اللغة العربية ؟!! وسمعت أحدهم يعبر ويجيب عن هذا السؤال بما يأتي : 
إن اللغة العربية لغة ميتة ، فأنا يهمني أن يتعلم ابني اللغة الإنجليزية الحية لأنه سيجد فرص عمل مناسبة ، فالإنجليزية لغة التقدم ولغة العلم والعمل !! 
أما إجابتنا فنحن نريد التقدم لأمتنا ، وأن يتعلم أبناؤنا اللغات الأجنبية بما فيها الإنجليزية ، ولكن المهم كيف يتم ذلك ؟ هل يتم ذلك بإهمال اللغة العربية ؟!! وفي دراسات أجرتها مؤسسات اليونسكو والأمم المتحدة ، وهي أبحاث متميزة أكدت أن جودة التعليم باللغة الأم هي شرط أساسي لرفع مستوى جودة التعليم في سائر المواد الدراسية ، بل هي شرط أساسي في جودة التعليم باللغة الإنجليزية أو أي لغة أجنبية أخرى ، لأن هناك مهارات إذا تعلمها الطفل باللغة الأم وهو أقدر على تعلمها بلغته الأم ، وهذه المهارات إن تعلمها وأجادها استخدمها بسهولة في تعلم اللغة الأجنبية ، وعندما يدخل الطفل الأول الابتدائي ، وعنده هذه الثرثرة بالعربية ثم ندرسه بمدرسة عالمية ليتعلم جميع المواد باللغة الإنجليزية ، وكأننا ندعوه ونقول له : انس هذه الثروة اللغوية التي عندك مما يقضي على الإبداع لديه ، وبذلك فقد أغلقنا الخبرات المعرفية ، ثم يطلب منه أن يفكر بلغة أخرى ليس لديه معرفة بها ، لأن التفكير  لا يمكن فصله عن المعرفة مما يضعف الثقة بالنفس لدى أطفالنا ، ويسبب لهم الاختناق اللغوي أو الفكري ، فلماذا نجعل لغتين مختلفتين في عقل الطفل في الروضة أو الابتدائي ؟! ويصبح في حيرة . فلغته العربية تبدأ من اليمين ... ويدخل معلم الإنجليزية ليقول له ابدأ من الشمال ، وشكا بعض أولياء الأمور من اضطراب أبنائهم في المدارس العالمية بين البدء من اليمين أو الشمال في اللغتين العربية والإنجليزية ، مما يجبر الأطفال للتخلي عن لغتهم الأصلية في سبيل تعلم اللغة الإنجليزية ، ويصبح عندهم الإحلال اللغوي وهو الإحلال الثقافي ، ويكون الآباء عادة متحمسين لأبنائهم في الصفوف الثلاثة الأولى لأنهم أصبحوا يتحدثون الإنجليزية ، وحين يصعدون إلى الصفوف العليا في المرحلة المتوسطة يشعرون بألم لأنهم خربوا أبناءهم بأيديهم مما يجعلهم يستعينون بمدرسي الخصوصي . 
وتنتقل النظرة الدونية من الثقافة العربية والإسلامية إلى الذات ، فينظرون إلى لغتهم العربية بالدونية وأنها من لغات الحثالة وكذلك أمتهم ، وحضارتهم وثقافتهم ، لأنهم يقدمون اللغات الأجنبية على العربية ، مع أن لغتنا نزل فيها أقدس وأعظم كتاب وهو القرآن الكريم ، فالقضية هنا مرتبطة بالقيم والأخلاق والدين .  
 

    
نقـــص الكفـــــايات اللغــــوية

وأضاف المحاضر أننا نعاني من نقص الكفايات اللغوية في مجتمعاتنا ، ففي الخمسينات كان الأطباء يكتبون وصفاتهم باللغة العربية لكن الآن لا نجد طبيبا يكتب بالعربية ، وكذلك الصيادلة فهم يتكلمون ويكتبون بالإنجليزية ، وكذلك نرى المهندسين يتحدثون بالإنجليزية لاسيما من تخصصوا بالاتصالات ، إن علينا في نظامنا التعليمي والإعلامي الاهتمام باللغة العربية حتى لا تنتقص الكفايات اللغوية مما يجعل لغتنا تنحصر في المستقبل بمجموعة من علماء اللغة ، مما يفكك عالمنا العربي ، ويقضي على وحدتنا العربية والإسلامية . والحق إذا أردنا تجويد التعليم في العلوم والرياضيات والطب والهندسة علينا دراستها باللغة العربية لا بالإنجليزية ، وهذا ما أثبتته دراسات البنك الدولي سنة 2005م ، ودراسة اليونسكو عام 2006م ، وفي عام 2007م ، وكذلك أجريت تجارب في الفلبين وغينيا والهند والصين أكدت فوائد التعليم باللغة الأم . والتعليم باللغة الأم يحسن مستوى التعلم في المواد الدراسية لسببين اثنين هما : 
1)  إن التعليم يجب أن يكون ذا معنى بالنسبة للطفل وهذا نجده باللغة الأم لأنه يفهمها وهي ذات معنى كبير عنده . 
2)  يتم التعليم بالانطلاق من المعلوم إلى المجهول ، فالطفل لديه خبرات في اللغة الأم ، فإذا ألغيت وأعطيت بلغة أخرى فقد هذا الأصل للتعلم. 
إذن التدريس باللغة الأم له تأثيره الكبير في تجويد التعليم باللغات الأجنبية . كما أجريت دراسة في جنوب أفريقيا بعد استقلالها في عام 2004م على 35000 ألف طالب في الصف السادس الابتدائي على مجموعة علموهم باللغة الإنجليزية ، وأخرى علموهم باللغة الأم ، وتفوقت المجموعة التي تعلمت باللغة الأم على المجموعة التي تعلمت بالإنجليزية ، وكذلك كانت النتيجة نفسها في نيوزيلاندا عام 2010م . 
وبينت الدراسات أن الفترة المناسبة لتعلم اللغات الأجنبية بعد سن الحادية عشرة . وعدت اليونسكو في الأمم المتحدة حرمان الطفل من التعلم باللغة الأم جريمة تربوية يحاسب عليها القانون .
هــل يمكـــن إحيـــــاء اللغــة بعــد أن تمــــوت ؟!

وأشار المحاضر الدكتور إبراهيم الحارثي إلى تجربتين في إحياء اللغة الأم والتدريس بها ، والأولى تجربة إحياء اللغة الايرلندية ، فقد انت ايرلندا محتلة من قبل بريطانيا لفترة طويلة ، ولما استقلت قررت إحياء الايرلندية بدل الإنجليزية ، فأصبحت اللغة الايرلندية لغة حية معروفة ، كذلك إحياء اللغة العبرية بعد ثلاثة آلاف سنة وذلك حين وجدت الإرادة السياسية ، وأصبحت جميع المواد تدرس بالعبرية حتى درجة الدكتوراه ، علما أن اللغة العبرية لغة محصورة باليهود ولا يتحدثها إلا فئة قليلة . أما لغتنا العربية فيمكن بعثها من جديد لتصبح لغة عالمية ، إذ كانت عالمية لسبعة قرون ، بينما الفرنسية لمائة وخمسين عاما ، والإنجليزية لمائتي عام فقط .... فهل من لغة أخرى سيطرت على العالم لسبعة قرون مثل العربية ؟!! 
وفي حقيقة الأمر أنه لا يمكن أن تنهض لغتنا العربية دون تعريب التعليم الجامعي ، وتدريس المواد باللغة العربية في جميع المراحل الدراسية .... فلماذا نهمش لغتنا وننحاز لغيرها من اللغات الأجنبية ؟!! 
إن جميع الدول المتقدمة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي تحترم هويتها ونفسها لا تسمح بتدريس الروضة والابتدائية بلغة أجنبية غير لغاتها . ومما يساعد على النهوض بلغتنا العربية إعداد معلمي اللغة العربية ، والعمل على تأهيلهم بتأهيل حديث ، وكذلك تحديث مناهج اللغة العربية ، وتبسيط اللغة العربية بحيث تكون جذابة للأطفال .   
 

 
نــــافذة للحــــوار

وفي الختام أثارت المحاضرة الكثير من الأسئلة والحوارات التي أجاب عنها المحاضر الدكتور إبراهيم الحارثي ، وقد بدأها الأديب شمس الدين درمش الذي أشار إلى أهمية اللغة الأم للطفل ، وسؤالي هل هناك دراسات جادة لدينا عن لغتنا العربية اللغة الأم ؟! أما الشاعر فيصل الحجي فقد سأل : أليس لدينا عقوق اللغة العربية ..... ؟! ومتى نعود إلى لغتنا العربية الفصحى ؟! وأرى أن تأثير اللهجة العامية على اللغة الفصحى أعظم من اللغات الأجنبية ! فهل نبحث عن حل لهذه المشكلة ؟! 
وقال الأستاذ جواد علي : أوافق وبشدة على توقف الإبداع عن الطفل حين يتعلم لغة أخرى غير لغته الأم .
وتحدث الأستاذ أحمد مشهور عن لغتنا العربية بأنها لغة رسمية ، وللأسف فنحن نعلّم العمال لغة عربية مكسرة ، وليست فصحى وصحيحة . 
ما تحدث المهندس محمد باجنيد عن أهمية تعليم اللغة العربية ، وغرس حبها في نفوس أبنائنا لأنها عنوان هويتهم وأصالتهم . 
أما الأستاذ جمال الصلاحي فقد سأل : هل كانت الدولة التركية تستخدم اللغة العربية ؟! وما السن المناسب لتعلم اللغة الأم ؟! 
وذكر العميد فلاح أن المحاضر أجاد في عرض بعض تجاربه الشخصية في تأثير اللغة الأم في التعليم ، كما ذكر أن الأطباء السوريين كانوا أكثر تفوقاً في قدراتهم لاستخدام اللغة العربية الفصحى وتطبيقها . 
وتحدث منصور العمرو بأن تايلند تدرس الطب باللغة التايلندية ، وكذلك فيلندا  وألمانيا ، وتركيا ، فتدرس العلوم التطبيقية من طب وهندسة وغيرها بلغاتها الأم . 
وقال بكر بوسعيد : هناك قنوات فضائية لا تقدم برامجها إلا باللهجة العامية ، وخوفنا من العامية على اللغة العربية ، ينبغي أن يتوازن مع خوفنا من اللغات الأجنبية على لغتنا ، وللأسف صدرت موسوعة للشعراء العالميين ، فلم شاعراً عربيا واحداً فيهم ؟! 
وأشار الشاعر فيصل الحجي : لا نستطيع أن نحمل أولادنا التحدث بلغة زهير بن أبي سلمى مثلاً ، ولا يستطيع شعراؤنا كذلك أن يكتبوا بلغة زهير والنابغة وامرئ القيس . 
أما الأديب محمود عمار فقال : أولادي يحفظون القرآن الكريم مما ساعدهم على إتقان اللغة العربية ، ولابد أن نحمل همّ اللغة العربية ، ولاشك أن تعلم اللغة العربية يقود إلى سهولة تعلم اللغات الأخرى ، وهذا ما نجده عند أبنائنا . 
وأذكر أن جاك شيراك عرض أمامه في الاتحاد الأوروبي أحد الفرنسيين تقريراً اقتصادياً باللغة الإنجليزية ، فاعترض عليه شيراك : قل لي بالله عليك كيف تتكلم اللغة الإنجليزية وأنت رجل فرنسي ؟! فخرج ولم يعد مرة ثانية !! 
بينما نحن الآن نجد من يتباهون بالحديث باللغة الإنجليزية أمام العرب ، ونحن ننادي بالحديث باللغة العربية وهي مهتوكة حتى في جلستنا هذه . 
وختمــت الجــلسة بالـــترحيب بالحضــــور ثـــانية مــن عميد الندوة الشيخ أحمد باجنيد ثم دعاهم للعشاء .   

التصنيفات